كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



ثم يصفون حالهم عندما سمعوا الهدى، وقد قرروه من قبل، ولكنهم يكررونه هنا بمناسبة الحديث عن فرقهم وطوائفهم تجاه الإيمان:
{وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به}..
كما ينبغي لكل من يسمع الهدى. وهم سمعوا القرآن. ولكنهم يسمونه هدى كما هي حقيقته ونتيجته. ثم يقررون ثقتهم في ربهم، وهي ثقة المؤمن في مولاه:
{فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً}..
وهي ثقة المطمئن إلى عدل الله، وإلى قدرته، ثم إلى طبيعة الإيمان وحقيقته.. فالله سبحانه عادل. ولن يبخس المؤمن حقه، ولن يرهقه بما فوق طاقته. والله سبحانه قادر. فسيحمي عبده المؤمن من البخس وهو نقص الاستحقاق إطلاقاً، ومن الرهق وهو الجهد والمشقة فوق الطاقة. ومن ذا الذي يملك أن يبخس المؤمن أو يرهقه وهو في حماية الله ورعايته؟ ولقد يقع للمؤمن حرمان من بعض أعراض هذه الحياة الدنيا؛ ولكن هذا ليس هو البخس، فالعوض عما يحرمه منها يمنع عنه البخس. وقد يصيبه الأذى من قوى الأرض؛ لكن هذا ليس هو الرهق، لأن ربه يدركه بطاقة تحتمل الألم وتفيد منه وتكبر به! وصلته بربه تهوّن عليه المشقة فتمحضها لخيره في الدنيا والآخرة.
المؤمن إذن في أمان نفسي من البخس ومن الرهق: {فلا يخاف بخساً ولا رهقاً}.. وهذا الأمان يولد الطمأنينة والراحة طوال فترة العافية، فلا يعيش في قلق وتوجس. حتى إذا كانت الضراء لم يهلع ولم يجزع، ولم تغلق على نفسه المنافذ.. إنما يعد الضراء ابتلاء من ربه يصبر له فيؤجر. ويرجو فرج الله منها فيؤجر. وهو في الحالين لم يخف بخساً ولا رهقاً. ولم يكابد بخساً ولا رهقاً.
وصدق النفر المؤمن من الجن في تصوير هذه الحقيقة المنيرة.
ثم يقررون تصورهم لحقيقة الهدى والضلال، والجزاء على الهدى والضلال:
{وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون.
فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً}..
والقاسطون: الجائرون المجانبون للعدل والصلاح. وقد جعلهم هذا النفر من الجن فريقاً يقابل المسلمين. وفي هذا إيماءة لطيفة بليغة المدلول. فالمسلم عادل مصلح، يقابله القاسط: الجائر المفسد:
{فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً}.. والتعبير بلفظ {تحروا} يوحي بأن الاهتداء إلى الإسلام معناه الدقة في طلب الرشد والاهتداء ضد الغي والضلال معناه تحري الصواب واختياره عن معرفة وقصد بعد تبين ووضوح. وليس هو خبط عشواء ولا انسياقاً بغير إدراك. ومعناه أنهم وصلوا فعلاً إلى الصواب حين اختاروا الإسلام.. وهو معنى دقيق وجميل..
{وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً} أي تقرر أمرهم وانتهى إلى أن يكونوا حطباً لجهنم، تتلظى بهم وتزداد اشتعالاً، كما تتلظى النار بالحطب..
ودل هذا على أن الجن يعذبون بالنار. ومفهومه أنهم كذلك ينعمون بالجنة.. هكذا يوحي النص القرآني. وهو الذي نستمد منه تصورنا. فليس لقائل بعد هذا أن يقول شيئاً يستند فيه إلى تصور غير قرآني، عن طبيعة الجن وطبيعة النار أو طبيعة الجنة.. فسيكون ما قاله حقاً بلا جدال!
وما ينطبق على الجن مما بينوه لقومهم، ينطبق على الإنس وقد قاله لهم الوحي بلسان نبيهم..
وإلى هنا كان الوحي يحكي قول الجن بألفاظهم المباشرة عن أنفسهم؛ ثم عدل عن هذا النسق إلى تلخيص مقالة لهم عن فعل الله مع الذين يستقيمون على الطريقة إليه، وذكرها بفحواها لا بألفاظها:
{وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم مآء غدقاً لنفتنهم فيه ومن يُعرِض عن ذكر ربه يسلكه عذاباً صعداً}..
يقول الله سبحانه إنه كان من مقالة الجن عنا: ما فحواه أن الناس لو استقاموا على الطريقة، أو أن القاسطين لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم نحن ماء موفوراً نغدقه عليهم، فيفيض عليهم بالرزق والرخاء.. {لنفتنهم فيه} ونبتليهم أيشكرون أم يكفرون.
وهذا العدول عن حكاية قول الجن إلى ذكر فحوى قولهم في هذه النقطة، يزيد مدلولها توكيداً بنسبة الإخبار فيها والوعد إلى الله سبحانه. ومثل هذه اللفتات كثير في الأسلوب القرآني، لإحياء المعاني وتقويتها وزيادة الانتباه إليها.
وهذه اللفتة تحتوي جملة حقائق، تدخل في تكوين عقيدة المؤمن، وتصوره عن جريان الأمور وارتباطاتها.
والحقيقة الأولى: هي الارتباط بين استقامة الأمم والجماعات على الطريقة الواحدة الواصلة إلى الله، وبين إغداق الرخاء وأسبابه؛ وأول أسبابه توافر الماء واغدوداقه. وما تزال الحياة تجري على خطوات الماء في كل بقعة. وما يزال الرخاء يتبع هذه الخطوات المباركة حتى هذا العصر الذي انتشرت فيه الصناعة، ولم تعد الزراعة هي المصدر الوحيد للرزق والرخاء. ولكن الماء هو الماء في أهميته العمرانية..
وهذا الارتباط بين الاستقامة على الطريقة وبين الرخاء والتمكين في الأرض حقيقة قائمة.
وقد كان العرب في جوف الصحراء يعيشون في شظف، حتى استقاموا على الطريقة، ففتحت لهم الأرض التي يغدودق فيها الماء، وتتدفق فيها الأرزاق. ثم حادوا عن الطريقة فاستلبت منهم خيراتهم استلاباً. وما يزالون في نكد وشظف، حتى يفيئوا إلى الطريقة، فيتحقق فيهم وعد الله.
وإذا كانت هناك أمم لا تستقيم على طريقة الله، ثم تنال الوفر والغنى، فإنها تعذب بآفات أخرى في إنسانيتها أو أمنها أو قيمة الإنسان وكرامته فيها، تسلب عن ذلك الغنى والوفر معنى الرخاء. وتحيل الحياة فيها لعنة مشؤومة على إنسانية الإنسان وخلقه وكرامته وأمنه وطمأنينته (كما سبق بيانه في سورة نوح)..
والحقيقة الثانية التي تنبثق من نص هذه الآية: هي أن الرخاء ابتلاء من الله للعباد وفتنة. ونبلوكم بالشر والخير فتنة. والصبر على الرخاء والقيام بواجب الشكر عليه والإحسان فيه أشق وأنذر من الصبر على الشدة! على عكس ما يلوح للنظرة العجلى.. فكثيرون هم الذين يصبرون على الشدة ويتماسكون لها، بحكم ما تثيره في النفس من تجمع ويقظة ومقاومة؛ ومن ذكر لله والتجاء إليه واستعانة به، حين تسقط الأسناد في الشدة فلا يبقى إلا ستره. فأما الرخاء فينسي ويلهي، ويرخي الأعضاء وينيم عناصر المقاومة في النفس، ويهيئ الفرصة للغرور بالنعمة والاستنامة للشيطان!
إن الابتلاء بالنعمة في حاجة ملحة إلى يقظة دائمة تعصم من الفتنة.. نعمة المال والرزق كثيراً ما تقود إلى فتنة البطر وقلة الشكر، مع السرف أو مع البخل، وكلاهما آفة للنفس والحياة.. ونعمة القوة كثيراً ما تقود إلى فتنة البطر وقلة الشكر مع الطغيان والجور، والتطاول بالقوة على الحق وعلى الناس، والتهجم على حرمات الله.. ونعمة الجمال كثيراً ما تقود إلى فتنة الخيلاء والتيه وتتردى في مدارك الإثم والغواية.. ونعمة الذكاء كثيراً ما تقود إلى فتنة الغرور والاستخفاف بالآخرين وبالقيم والموازين.. وما تكاد تخلو نعمة من الفتنة إلا من ذكر الله فعصمه الله..
والحقيقة الثالثة أن الإعراض عن ذكر الله، الذي قد تنتهي إليه فتنة الابتلاء بالرخاء، مؤد إلى عذاب الله. والنص يذكر صفة للعذاب {يسلكه عذاباً صعداً}.. توحي بالمشقة مذ كان الذي يصعد في المرتفع يجد مشقة في التصعيد كلما تصعد. وقد درج القرآن على الرمز للمشقة بالتصعيد. فجاء في موضع: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السمآء} وجاء في موضع: {سأرهقه صعوداً} وهي حقيقة مادية معروفة. والتقابل واضح بين الفتنة بالرخاء وبين العذاب الشاق عند الجزاء!
والآية الثالثة في السياق يجوز أن تكون حكاية لقول الجن، ويجوز أن تكون من كلام الله ابتداء:
{وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً}.
وهي في الحالتين توحي بأن السجود أو مواضع السجود وهي المساجد لا تكون إلا لله، فهناك يكون التوحيد الخالص، ويتوارى كل ظل لكل أحد، ولكل قيمة، ولكل اعتبار. وينفرد الجو ويتمحض للعبودية الخالصة لله. ودعاء غير الله قد يكون بعبادة غيره؛ وقد يكون بالالتجاء إلى سواه؛ وقد يكون باستحضار القلب لأحد غير الله.
فإن كانت الآية من مقومات الجن فهي توكيد لما سبق من قولهم: {ولن نشرك بربنا أحداً} في موضع خاص، وهو موضع العبادة والسجود. والسجود. وإن كانت من قول الله ابتداء، فهي توجيه بمناسبة مقالة الجن وتوحيدهم لربهم، يجيء في موضعه على طريقة القرآن:
وكذلك الآية التالية:
{وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً}..
أي متجمعين متكتلين عليه، حين قام يصلي ويدعو ربه. والصلاة معناها في الأصل الدعاء.
فإذا كانت من مقولات الجن، فهي حكاية منهم عن مشركي العرب، الذين كانوا يتجمعون فئات حول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي أو وهو يتلو القرآن كما قال في سورة المعارج: {فما للذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين} يتسمعون في دهش ولا يستجيبون. أو وهم يتجمعون لإيقاع الأذى به، ثم يعصمه الله منهم كما وقع ذلك مراراً.. ويكون قول الجن هذا لقومهم للتعجيب من أمر هؤلاء المشركين!
وإذا كانت من إخبار الله ابتداء، فقد تكون حكاية عن حال هذا النفر من الجن، حين سمعوا القرآن.. العجب.. فأخذوا ودهشوا، وتكأكأوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم لصق بعض، كما تكون لبدة الصوف المنسوق شعرها، بعضه لصق بعض!.. ولعل هذا هو الأقرب لمدلول الآية لاتساقه مع العجب والدهشة والارتياع والوهلة البادية في مقالة الجن كلها! والله أعلم..
وعندما تنتهي حكاية مقالة الجن عن هذا القرآن، وعن هذا الأمر، الذي فاجأ نفوسهم، وهز مشاعرهم وأطلعهم على انشغال السماء والأرض والملائكة والكواكب بهذا الأمر؛ وعلى ما أحدثه من آثار في نسق الكون كله؛ وعلى الجد الذي يتضمنه، والنواميس التي تصاحبه.
عندما ينتهي هذا كله يتوجه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في إيقاعات جادة صارمة حاسمة، بالتبليغ، والتجرد من هذا الأمر كله بعد التبليغ، والتجرد كذلك من كل دعوى في الغيب أو في حظوظ الناس ومقادرهم.. وذلك كله في جو عليه مسحة من الحزن والشجى تناسب ما فيه من جد ومن صرامة:
{قل إنمآ أدعو ربي ولا أشرك به أحداً قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً إلا بلاغاً من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيهآ أبداً.
حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقل عدداً قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمداً عالم الغيب فلا يُظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً}..
قل يا محمد للناس: {إنما أدعوا ربي ولا أشرك به أحداً}.. وهذا الإعلان يجيء بعد إعلان الجن لقومهم: {ولن نشرك بربنا أحداً}.. فيكون له طعمه وله إيقاعه. فهي كلمة الإنس والحق، يتعارفان عليها: فمن شذ عنها كالمشركين فهو يشذ عن العالمين.
قل: {إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً}.. يؤمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتجرد، ويؤمر أن ينفض يديه من كل ادعاء لشيء هو من خصائص الله الواحد الذي يعبده ولا يشرك به أحداً. فهو وحده الذي يملك الضر ويملك الخير. ويجعل مقابل الضر الرشد، وهو الهداية، كما جاء التعبير في مقالة الجن من قبل: {وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً}.. فيتطابق القولان في اتجاههما وفي ألفاظهما تقريباً، وهو تطابق مقصود في القصة والتعقيب عليها، كما يكثر هذا في الأسلوب القرآني..
وبهذا وذلك يتجرد الجن وهو موضع الشبهة في المقدرة على النفع والضر ويتجرد النبي صلى الله عليه وسلم وتتفرد الذات الإلهية بهذا الأمر. ويستقيم التصور الإيماني على هذا التجرد الكامل الصريح الواضح.
{قل إني لن يجيرني من الله أحداً ولن أجد من دونه ملتحداً إلا بلاغاً من الله ورسالاته...}..
وهذه هي القولة الرهيبة، التي تملأ القلب بجدية هذا الأمر.. أمر الرسالة والدعوة.. والرسول صلى الله عليه وسلم يؤمر بإعلان هذه الحقيقة الكبيرة.. إني لن يجيرني من الله أحد، ولن أجد من دونه ملجأ أو حماية، إلا أن أبلغ هذا الأمر، وأؤدي هذه الأمانة، فهذا هو الملجأ الوحيد، وهذه هي الإجارة المأمونة. إن الأمر ليس أمري، وليس لي فيه شيء إلا التبليغ، ولا مفر لي من هذا التبليغ. فأنا مطلوب به من الله ولن يجيرني منه أحد، ولن أجد من دونه ملجأ يعصمني، إلا أن أبلغ وأؤدي!
يا للرهبة! ويا للروعة! ويا للجد!
إنها ليست تطوعاً يتقدم به صاحب الدعوة. إنما هو التكليف. التكليف الصارم الجازم، الذي لا مفر من أدائه. فالله من ورائه!
وإنها ليست اللذة الذاتية في حمل الهدى والخير للناس. إنما هو الأمر العلوي الذي لا يمكن التلفت عنه ولا التردد فيه! وهكذا يتبين أمر الدعوة ويتحدد.. إنها تكليف وواجب. وراءه الهول، ووراءه الجد، ووراءه الكبير المتعال!
{ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً.
حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقل عدداً}.
فهو التهديد الظاهر والملفوف لمن يبلغه هذا الأمر ثم يعصي. بعد التلويح بالجد الصارم في التكليف بذلك البلاغ.
وإذا كان المشركون يركنون إلى قوة وإلى عدد، ويقيسون قوتهم إلى قوة محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين القلائل معه، فسيعلمون حين يرون ما يوعدون إما في الدنيا وإما في الآخرة {من أضعف ناصراً وأقل عدداً}.. وأي الفريقين هو الضعيف المخذول القليل الهزيل!
ونعود إلى مقالة الجن فنجدهم يقولون: {وأنا ظننآ أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هرباً} فنجد التعقيب على القصة يتناسق معها. ونجد القصة تمهد للتعقيب فيجيء في أوانه وموعده المطلوب!
ثم يؤمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتجرد وينفض يديه من أمر الغيب أيضاً:
{قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمداً}...
إن الدعوة ليست من أمره، وليس له فيها شيء، إلا أن يبلغها قياماً بالتكليف، والتجاء بنفسه إلى منطقة الأمان الذي لا يبلغه إلا أن يبلغ ويؤدي. وإن ما يوعدونه على العصيان والتكذيب هو كذلك من أمر الله، وليس له فيه يد، ولا يعلم له موعداً. فما يدري أقريب هو أم بعيد يجعل له الله أمداً ممتداً. سوء عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة. فكله غيب في علم الله؛ وليس للنبي من أمره شيء، ولا حتى علم موعده متى يكون والله سبحانه هو المختص بالغيب دون العالمين:
{عالم الغيب فلا يُظهر على غيبه أحداً}..
ويقف النبي صلى الله عليه وسلم متجرداً من كل صفة إلا صفة العبودية. فهو عبد الله. وهذا وصفه في أعلى درجاته ومقاماته.. ويتجرد التصور الإسلامي من كل شبهة ومن كل غبش. والنبي صلى الله عليه وسلم يؤمر أن يبلغ فيبلغ: {قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمداً عالم الغيب فلا يُظهر على غيبه أحداً}..
هناك فقط استثناء واحد.. وهو ما يأذن به الله من الغيب، فيطلع عليه رسله، في حدود ما يعاونهم على تبليغ دعوته إلى الناس. فما كان ما يوحي به إليهم إلا غيباً من غيبه، يكشفه لهم في حينه ويكشفه لهم بقدر، ويرعاهم وهم يبلغونه، ويراقبهم كذلك.. ويؤمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلن هذا في صورة جادة رهيبة:
{إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً}..
فالرسل الذين يرتضيهم الله لتبليغ دعوته، يطلعهم على جانب من غيبه، هو هذا الوحي: موضوعه، وطريقته، والملائكة الذين يحملونه، ومصدره، وحفظه في اللوح المحفوظ.